أحمد فرحات يكتب: حبٌ.. شَقِيّ

في مقالة الأسبوع الفائت تناولت بعض أسماء ملهمات الشعراء من النساء في العصور القديمة، مثل: سعاد-وعمرة-وليلى .. وهي أسماء حقيقية. وذكرت أن هذا الأمر يسمى تشبيبا وهو أمر يوجب اللوم والتقريع.

والآن أستمر في عرض ملهمات الشعراء ممن عرفن بأسمائهن الحقيقية في الحياة العامة للناس، وأذكر منهن: ليلى جنبلات، ملهمة سعيد عقل وزوجته، وريتا محبوبة محمود درويش، ومحبوبة إبراهيم ناجي صاحبة الأطلال. وملهمة كامل الشناوي في قصيدته “لا تكذبي” وغيرها من القصائد المعروفة فيمن قيلت أصلا ونسبا..  

عاش الكنسي المحافظ على تقاليد الكنيسة سعيد عقل حياته راهبا أو كالراهب، لم تستهوه امرأة حتى بلغ السبعين من عمره، والمرأة التي عبر عنها في شعره على مدار سبعين عاما هي المرأة المثال، المرة النموذج، المرأة التي لم يستطع أن يلمسها أو يلامسها بيده.

وفي سنة 1982م عقد الشاعر السبعينيسعيد عقل، قرانه على الشاعرة آمال جنبلات، الدرزية المسلمة. وهي التي استشعرت مصيرها القاتم في غير نص شعري، وفي قولها على وجه الخصوص:


ماذا أقول عندما ضباب عيني سيحجب النور؟
ماذا أقول عندما الموت يُثقل جفني؟
لقد غنيت الحقول والجداول
وها أخرج من الحياة، لا ذليلة ولا فخورة
ولكنني فقط أُخفض رأسي
وأرجع من حيث أتيت

كان الشاعر في السبعين من عمره يوم أقدم على الزواج، وكانت عروسه في الثالثة والثلاثين، ولم تكن غريبة عن عالم الشعر والأدب. في العشرين من عمرها، أصدرت آمال جنبلاط ديواناً شعرياً بالفرنسية بعنوان “أغنية ليلية”، ونشر “ملحق النهار” في 22 نوفمبر 1969م مراجعة نقدية لهذه الباكورة لم تحمل توقيعاً، أرهص الناقد بموت الشاعرة مبكرا، وكتب أنسي الحاج في قراءته النقديةلهذه المجموعة الشعرية: “شعر واضح صادق، يهرب من التعقيد ولا علاقة له بالتراكيب الحديثة، لولا أنه من ناحية الشكل، يعتمد البيت الحر، مع الاحتفاظ بالقافية. يخيّم على هذا الشعر حزن كاسر، وتمتلئ قصائد الكتاب، إلى حد الهاجس، بألفاظ الموت وحاشيته. كأنّما هذه الصبية لا تعيش إلا في مواجهة الموت، ونكاد نقول في حماه. لماذا؟ لأنها (هكذا تقول) تعرف انها لن تعيش. لماذا؟ لأنها (هكذا تقول) لا تعرف، وليس هناك سبب واحد يبرهن لها انها لن تموت“.وهكذا يرى النقد ما لا يراه القارئ العادي.

بعد فترة ليست طويلة من زواجها قتلت جنبلات برصاصة اخترقت رأسها، قيل انتحرت، وقيل قتلها قومها، وقيل ما قيل، فالمراد الحاصل أن الزيجة انتهت بالقتل.

عاش محمود درويش الحب مع ريتا خلال 30 ديوانا شعريا، عبر من خلالهم عن مدى حبه وتعلقه بريتا تلك الفتاة الجامحة، الراكضة في عقله، والسابحة في دماه، والغارقة في مياهه، والمتشبثة بأهدابه، والعالقة في ثيابه.

أطلت ريتا على جمهور الشعر العربي عبر قصائد “ريتا أحبيني” و”ريتا والبندقية” و”شتاء ريتا الطويل” فيقول:

ريتا.. أحبّيني و موتي في أثينا
مثل عطر الياسمين
لتموت أشواق السجين ..

ويقول عن ريتا في جرأة النابغة وهو يصف امرأة النعمان المتجرة:

تَنامُ ريتا في حَديقَة جِسْمِها
توتُ السَّياجِ على أَظافِرها يضيءُ
المِلْحَ في جَسَدي . أُحبّك
نامَ عُصْفورانِ تحت يَدَيّ….
نامَتْ مَوْجةُ القَمْحِ النبيل على تَنَفُّسها البطيءِ
وَ وَرْدَةٌ حَمْراءُ نامَتْ في المَمَرِّ
ونامَ لَيْلٌ لا يَطولُ
والبَحْرُ نامَ أمامَ نافِذَتي على إيقاعِ ريتا
يَعْلو ويَهْبِطْ في أَشِعَّة صدْرِها العاري
فَنامي بَيْني وبَيْنَكِ
لا تُغَطِّي عَتْمَةَ الذَّهَبِ العَميقَةَ بَيْنَنَا
نامي يَداً حَوْلَ الصِّدى
ويَداً تُبَعْثِرُ عُزْلَة الغابات
نامي بين القميص الفُسْتُقيِّ ومَقْعَدِ اللَّيْمون
نامي فَرَساً على رايات ليلة عُرْسِها….

    كانت ريتا شخصية حقيقية معروفة أصلا ونسبا، وقد اعترف درويش بذلك، اسمها الحقيقي تمارا باهي ولدت في مدينة حيفا الفلسطينية عام 1943م، وعملت أستاذة للأدب بجامعة تل أبيب، راسلها درويش بعد حب عنيف، زلزل أركانه، وهام بها رغم أنها إسرائيلية تعمل في سلاح الطيران الإسرئيلي .. فكتب إليها:

“أردت أن أسافر إليك في القدس؛ حتى أطمئن وأهدئ من روعك. توجهت بطلب إلى الحاكم العسكري، بعد ظهر يوم الأربعاء، لكي أحصل على تصريح لدخول القدس، لكن طلبي رُفض، لطالما حلمت أن أشرب معك الشاي في المساء، أي أن نتشارك السعادة والغبطة. صدقيني – يا عزيزتي- أن ذلك يجيش عواطفي حتى لو كنتِ بعيدة عني، لا لأن حبي لك أقل من حبك لي، ولكن لأنني أحبك أكثر”    

وفي عام 2000 قام وزير التعليم الإسرائيلي يوسي ساريد إدراج قصائد درويش جزءا من منهج الأدب في المدارس الثانوية. ناهيك عن إذاعة قصائده في الإذاعة والتلفاز الإسرائيلي. وقيام دور نشر كبرى بترجمة قصائده إلى العبرية.