أحمد فرحات يكتب: ناجي العصر

لقد قسا د. طه حسين في نقده على د. إبراهيم ناجي الشاعر الشاب، ولم يعتبره شاعرا كبيرا محلقا في فضاء الشعر، وانتقد قصر قامته الفنية قائلا: “نحن نكذب شاعرنا الطبيب إن زعمنا له أنه نابغة، بل نحن نكذب زعمنا له أنه عظيم الحظ من الامتياز” بهذه اللكمات لا الكلمات واجه العميد شاعر الأطلال، وما أقساه من نقد!

كان ناجي مولعا بتقسيم النص إلى مقطعات صغيرة تشبه المربعات والمخمسات باثا فيها عصارة تجاربه الفنية التي لم تلق إلا الاحتقار والضعة والهوان من ناقد بحجم العميد.

 

فماذا عساه الآن إذا قرأ شعر محمد ناجي الشاعر الشاب الذي ظهر في ديوانه الثاني”صلوات في عينيها” ؟ وقد برى الحزن جسده، ونحلت الغربة وبره، ولم يبق فيه سوى شبح الإنسان:

 

ومضى العمر وفارقت أهلا وصغارا عدتي وعتادي

وتفردت بحزني ودمعي واعتلالي ألما وافتقادي

كم ليال قد طويت كئيبا ساهم الطرف كمن في حداد

فهل يقول العميد عن ناجي اليوم ما قاله عن ناجي الأمس؟ وقد التزم ناجي اليوم النفَس الطويل، ونبرة الحزن، ولم يقسم نصه أثلاثا وأرباعا، فهل يطيق صبرا على النقد والتحليل؟

ثم يواصل العميد هجومه الشرس على ناجي الأمس:

“فإذا نظرنا إليه نظرة الناقد المُحلل الذي يريد أن يقسم الشعر أنصافاً أو أثلاثاً أو أرباعاً، لم يثبت لنا، أو يصبر على نقد، إنما يدركه الإعياء قبل أن يدركنا، ويفر عنه الجمال الفني قبل أن يفر عنا الصبر على الدرس والنقد والتحليل”

إن ناجي اليوم شاعر عميق الغور، دقيق اللفظ، سخي الموسيقا، وإن جنحت صوره إلى المألوف والمعتاد، فهل يستحق أن نقول فيه إنه: “لا يستطيع أن يتجاوز الرياض المألوفة، ولا يرتفع في الجو ارتفاعاً بعيد المدى” ؟ أو أن “شعرهُ أشبه بما يسميه الفرنجة موسيقى الغرفة” ؟

شعر ناجي اليوم موغل في الذاتية، ويمكن أن نتتبع الذات المأزومة في شعره كعلامة تجارية تطبع شعره وتسوقه وتهتم ببنية العلامة وعلائقها في النص الشعري وترصد توزع تلك العلامات ووظائفها الداخلية والخارجية ، مهما اختلف شكلها وتباين نوعها . فتأمل قوله:

وشُجُوني رافقَتْنِي فظَنِّي مَضْجَعي قدْ حِيكَ لي مِنْ قَتَادِ

كَمْ مَضَىٰ عِيدٌ عَليَّ حزينٌ وأنا في شقْوَتي وانْفِرادي

ستجد أن ياء المتكلم بارزة بروز الأنا في (شجوني- رافقتني- ظني- مضجعي- لي-عليّ- شقوتي- انفرادي) وهذا البروز مرتفع النبرة ، وضع الأبيات موضع الكاميرا، وسلط عليها الضوء فبدت المعاناة جراء توالي علامة لغوية داخلية منتجة دلالات تنتمي إلى الذات المأزومة بالغربة والبعد عن الأحباب.

ناجي اليوم شاعر مُعنّى بالشغف، محبوب من الناس، والحسناوات، فلهن عنده سهم من الغزل العذب؛ فيقول متأثرا بناجي الأمس:

في الحُسْنِ غانِيةٌ تَخْتال في ثِقةٍ

مِنها الغُرورُ حبيبٌ ليسَ مَمْقُوتا

أليس ذلك ترديدا لقول ناجي الكبير؟

واثق الخطوة يمشي ملكا

ظالم الحسن شهي الكبرياء

يبدو أن ناجي اليوم لم ينج من سيطرة ناجي الكبير، فتأمل قول ناجي اليوم:

كمِثلِ فَراشٍ إلى النُّورِ يَهفو

ولم يدر نوره حتف الجسد

وتأمل قول ناجي الكبير:

كنتِ في برجٍ من النور على ..قـمة شـاهـقة تغزو السحـــــابا

وأنا منكِ.. فراشٌ .. ذائــــبٌ ..في لجين من رقيق الضوء ذابا

فـرحٌ..بالنور والنار معــــــا ..طار للقمّة محــــــــموما .. وآبا

آب من رحلته .. محـترقــــا ..وهو لا يألوك حبا .. وعتــــابا

إذا تأملت قول الناجيين يتجلى لك أني لن أكون عنيفا قاسيا عنف العميد وقسوته بل داعما مساندا مستمتعا ..

 

تَمادَتْ دَلالًا فالقُلوبُ عميدةٌ

وغَلَّقَتِ الأبوابَ دُونَ الطَّوارِقِ

كَحُورٍ بجَنَّاتِ الفراديسِ رَسْمُها

يُرَىٰ الحُسْنُ منها في كَمالِ التناسُقِ

مَلاحَتُها مِحْرابُ كلِّ مُتَيَّمٍ

وقِبْلةُ مَفْئودٍ وإيمانُ فاسِقِ

سيدي العميد:

لقد وصل ناجي اليوم من الحسن مبلغا عظيما، جعلني أستعذب شعره وأتوق إلى قراءته، وأدعو القراء إلى متابعة ذلك الشبل الصغير في غابة الشعراء. فأنا لا أشك في أصالة ناجي اليوم ولكني أشم رائحة ناجي الأمس في أنف ناجي اليوم وملء صدره ..

 

 

إقرأ أيضا

تفسير رؤية الذهب في المنام لابن سيرين