أحمد فرحات يكتب : لغة الشعر الحديث

 

يصرح الشاعر المعاصر بأنه توغل في القافيات العذارى، ليبدد خوف الحروف العليلة، إنه يصنع من لغته الشفيفة عالما مركوما من الأمنيات والخيالات المتشعبة في ذاته. تلك اللغة التي يمكن أن نسميها لغة شعرية حديثة، إنها لغة فيها تمرد على اللغة السائدة، لغة متمردة على سجن الواقع وتنتفض للإفلات من ضيقه وملله ووحشته وربما انحطاطه وركاكته.

 

تمتاز هذه اللغة بالأخذ من لغة العرب، وأمثال العرب، وطرائف العرب، متخذة من مذخورها الكامن في ثقافة الأحفاد ما يؤهلها لتكوين إشعاعات وذبذبات تصل الحفيد بالجد دائما، إنه نظر إلى الخارطة العربية فوجدها لما تزل باقية كما هي من عهد الأجداد البواسل إلى اليوم ولكنها تشكو غبار البين، وصهيل الخيول التي سئمت أعنتها التموقع في الخواء، وفوق صهوات الرجاء، وبين أنياب الفِرَق.

 

تحريك بعض الأسماء الجامدة ومحاولة اشتقاق الأفعال منها سمة غالبة في الشعر الحديث؛ فالشاعر لم يكفه الاتكاء على المعاجم فحسب، بل راح يمتاح من التصرف في بعض الأسماء، وإلباسها روحا ذات أزمان وأحداث مختلفة، فراح يتصرف في الاسم ويغير من ثباته وجموديته إلى أفعال ذات حركة وديناميكية طلبا للعون من اللغة البخيلة.

 

فالشاعر شديد الظمأ إلى لغة أخرى، يضمنها بثه وشكواه، فاستعار من الاسم اسميته وزاد عليه بتغييره نمطية الاسم فحوله إلى فعل كثير الحركة والاضطراب، انظر معي إلى كلمة سنبلة وهي اسم جامد، فكيف استطاع أن يبعث فيها الحركة والنماء بإسنادها إلى تاء الفاعل، فصارت فعلا دالا على الاسم والفعل معا: سنبلت في دوامة النقع العريق/ سلافة اللحن /الطهور المضطهد. وكذلك الأفعال التالية: تموءزنبقيتشجنتعشبتتبرعمتبسّق

 

ولعل ظاهرة لغوية أخرى نراها بجلاء في الشعر الحديث، وهي الأفعال ذوات الدلالات النفسية الحادة، نحو: قشّرتوشّح (بالتضعيف) – تبجّستتفسّختتعشّبتجلّلتضجّانتشعّانتحدّرتهشّمتتهدّجت.تؤزُّهيكمِّميرنِّقتدثّر

 

وكذلك بعض الأفعال المبنية للمفعول ذات التضعيف أو بدونه:

 

 أُجهِضَت طُمِستصُوّحتسِيقتعُتِّقَتْتتكوّر.. فالشاعر يختار من صيغ الأفعال أشدها تأثيرا، وأثقلها نطقا، مؤثرا الأفعال بحروفها الزائدة على غيرها نحو: اعتمرتامتلثتامتشقتاستوطنتالتفتت –  اندلقتيصطخبيتغابى -.تتبرعمابتنىأتأبّط .

 

ولم يقف عند هذا الحد بل استخدم من غرائب اللغة وشذوذها ما يجعل لقصيدته الالتفات المناسب، فأضاف (أل) إلى الفعل المضارع رغبة منه في لفت الانتباه بشكل مباشر ولافت، نحو: اليتضوّراليتعثّر..   انظر معي إلى قول عيد الحجيلي:

 

شفيفاً

تساقط قحطي على نخلتين

تضجّانفي صدرك المتوقّدبالخوف

والهمسات العطاش

تشعّان لحنا حزينا

تحدّر من مهجة تستعرْ

 

فالأبيات من قصيدة بعنوانقحط، والقحط هو الجفاف واحتباس الماء، فالشاعر يصيب المتلقي بالصدمة والدهشة في تساقط القحط، فبدلا من تساقط الماء، وانفجار ينبوعه ليعم الخير والنماء، فإذا به يصدم المتلقي بتساقط الجفاف، في إشارة منه إلى خواء الذات الشاعرة من عاطفة الحب والانتماء، ثم يستمر في إصابة المتلقي بهذا التساقط الجاف علىنخلتين، والنخلتان هنا رمز الشموخ العربي، ومصدر عزته وإبائه، فاحتباس الماء صار متجها إلى كبرياء الذات الشاعرة مؤرقا لها، ضاربا رمز عزته وكبريائه، لأن النخلتين تضجان بالخوف في صدر متحفز، متوقد، ليشيعان أغنية حزيمة يتغنى بها قلب الأمة الحزين، فالأمة العربية التي كانت ترفل في عز وبهاء قد أصابها ما يصيب الأرض الخراب، من امحاء القطر، وذبول الكائنات.

 

وأحيانا يأتي الفعل المضارع عند الشاعر مشابها للاسم، فيدخل أل التعريف على المضارع، وهذا الأمر خاص بالضرورة فقط، ولكنه لجأ إلى هذه الضرورة أكثر من مرة، فأدخل أل على المضارع في قول عيد الحجيلي:

وفيم التردد؟

ذا سمتك اليتضور عريا

يفتش في حانة الوقت عن ظله

ا ل ز ئ ب ق ي

وقال في قصيدةصحوة” :

صاحبي

ليس هذا الدم اليتعثر

في ظاهر الوجه

ص ب ا ح اً

دمك!!

 

ودخول (أل) هنا ليست كالداخلة على الاسم النكرة لتفيد التعريف، ولكنها هنا بمعنى الذي، وهذا موجود في الشعر العربي القديم، كما في قول الفرزدق:

ما أنت بالحكم الترضى حكومته   ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل

 

فإذا دخلت (أل) على المضارع المبني للفاعل فإنما تدخل عليه لمشابهته اسم الفاعل، وهو كثير في الشعر القديم، ولكنه غير مستحب، وإنما يكون للضرورة فحسب. ولكن ما الضرورة التي ألزمت الشاعر العودة إلى الوراء واقتفاء أثر القدماء في تناول ظاهرة لم يستحسنها القدماء أنفسهم ودللوا على ضعف مستخدميها، وقلة شاعريتهم، وأن من استخدمها منهم إنما كانت للضرورة الشعرية؟

 

لم يكن اهتمام الشاعر الحديث بلغة شعره يصرفه عن استخدام العامية، ولاسيما العامية المصرية، يبدو أن لغته لم تسعفه بالبديل المناسب في الفصحى، فراح ينشده من العامية، ولا ضير في ذلك طالما أنه خلق لها جوا شعريا مناسبا ككلمة سيجارة :

 

كلما ضحكت

غيمة مرجأهْ

أطفأ البرق

في فمها العذب

سيجارةمغرمهْ

 

طالع أيضاً المزيد

“متاح بالإجابات”.. بنك أسئلة المتميز علوم شهر مارس 2024 للصف السادس الابتدائي pdf