أحمد فرحات يكتب : التأمل الذاتي

عند بنت سالم الغامدي

 

تنطلق بنت سالم الغامدي وفاء في “منطق الطير” من عتبة كبرى لها جذور تراثية عميقة، وأولى خطوات التأملات الذاتية تكمن في النظر والترقب لعلاقة الشاعر بخالقه، فهي علاقة تقوم على تيقن الشاعرة بأن الله يعلم ما يدور في النفس، وما تخفي الصدور، وفي هذا التيقن دعوة صريحة عبر أفعال الأمر المتتالية، والاستفهام، والنداء، ووسائل لغوية تنبه القارئ وتشد انتباهه إلى فقه الحياة، وفقه الواقع، فتقول في قصيدة”فقه”

 

زَوِّدْ رِكابَكَ بالتُّقى ترويحا واركضْ بقلبك سالما وجريحا

وابذل ندى الراحات في إحسانها بذلَ المبرة مخلصا ونصيحا

ماذا الذي يشري المكاسب بالدحى فقهُ التجارة أن يبيعَ ربيحا

ولو تأملنا أساليب الأمر، والاستفهام، والنداء، في الأبيات لوجدنا دعوة صريحة من الشاعرة إلى التمسك بالقيم الدينية، والمبادئ السليمة النابعة من لدنها خبيرة بأدواء النفس الإنسانية، ومدى استقامتها إذا تمسكت بفقه الواقع، وألا مفر من الله إلا إليه، فلا نجاة وملا مفر إلا إذا عدنا إلى هذه القيم التي دعت إليها الشاعرة في أسلوب دعوي مباشر وصريح، لأن المناسبة الدينية لا يلزمها مجاز أو تورية بل مباشرة صريحة.

 

ومن هذه الخطوات الذاتية تأملها رمز الدين، وخاتم الرسل الأكرمين، وهادي البشرية من الظلام إلى اليقين، ففي قصيدة”جلال التحايا” تجد روحا تسامت بحب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فهامت في محبته تعظيما وإجلالا لمكانته، ودعوة صريحة إلى المحبة الخالصة في شخص الرسول العظيم صلوات الله عليه فتستحضر شخصيته الكريمة، معربة عن حبها وتعظيمها لرسالته السامية، دون أن تشكو الهم العام، أو وجع الأمة جراء عدم تنفيذ مبادئه وقيمه، دون أن تذرف دموعها حرى على ما ألم بالمسلمين من بعده، وتكتفي باستحضار شخصيته الكريمة، والتعبير عن محبتها وعشقها لشخصه صلى الله عليه وسلم، فتقول:

 

يا خاتم الهدي يا سفر البدايات يا قائد النور في فج المسارات

دانت لك العرب بالإفصاح حجتها والحكمة انسكبت درا بآيات

يا صفوة الله يا صوان دعوته يا منتهى الرشد يا سر الهدايات

 

تأمل نداءات الشاعرة المتتالية، ففي البيت الأول فقط ثلاثة نداءات متتالية، وهي نداءات ترمي من ورائها استحضار شخصية عظيمة، وتنبيه المتلقي لشعرها بأنها بصدد رحلة حب لا تنتهي مع أكبر رموز الدين تأثيرا في البشر، ومحبته فرض عين على كل مسلم، وتأمل البيت الثالث وقد ترددت النداءات متتالية (ياصفوة الله/يا صوان دعوته/يا منتهى الرشد/ يا سر) لتجد نفسك غارقا في حب المنادى، وما تعدد الصفات التي تليق به إلا عشق في شرفه وعظمته صلى الله عليه وسلم.

 

وإذا تأملت سر الجمع في القوافي التائية شديدة الخصوصية فسوف تجد أنك أمام مفرد بصيغة الجمع، وجمع الجموع الذي لا منتهى لصفات عظمته، فليس مسارا بل مسارات، وليست آية بل آيات، وليست هداية بل هدايات، وليست نهاية بل نهايات.. فاختيار القوافي جاء متسقا مع مضمون الدلالة السامية، فالرسول صلى الله عليه وسلم جامع البدايات والنهايات والمسارات والهدايات .. دقة متناهية في اختيار القافية الدالة المعبرة عن الشعور الصادق بالمحبة.

 

التأملات الذاتية التي منبعها الدين القويم هي تأملات صادقة ودالة على نفسية متزنة، تزن الأمور الحياتية بوقع الدين ومبادئه، يسهل معك التعامل معها باطمئنان، ولا تتوقع منها ما يضيرك أو يقلل منك، بل هي نفسية على الفطرة البيضاء. وليست مصادفة ابتكار صور جمالية تصب جمالها على النفس الإنسانية التواقة إلى المحبة، المشبعة بروح الحياة، وفقه الحياة، فهي نفس اقتبست نور محبتها من سالف النور المحمدي فغدت مشرقة، تزهو بها كل نفس تتطلع إلى الاكتمال البشري في صورة النور المنبعث من رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم.