أحمد فرحات يكتب : الأماكن كالنساء

 

تؤدي الأماكن دورا مهما في المشهد الثقافي المعاصر، ولا نبالغ إذا قلنا في القديم أيضا، ففي القصائد القديمة نراجع صدى الأطلال لدى الشعراء الجاهليين، سندرك للتو أننا أمام أماكن ليست كالأماكن المعتادة. وربما زاد من درامية المشهد الأطلالي أن الشعراء قدسوا هذه الأماكن، وغدت لهم مصدر سعادة حقيقية، وجينا ارتبط بأعناقهم، ويجب الوفاء به.

 

لم يكن للعربي القديم سجل يخلد فيه مآثره ومناقبه وأيامه سوى الشعر، ولذا كان الوعاء الذي حفظ مكنون أسرار الشعراء، فكان أكثر الفنون تعبيرا عن الأماكن بمختلف أنواعها وضروبها، صحراوية كانت أم قصورا أم خياما. أما في الحديث فقد غدا المكان مصورا بشكل أدق، وأعرب الروائيون على تفاصيل المكان الهندسية والمجازية والنفسية، وأصبحت الرواية وعاء لحفظ الأماكن.

 

وقد أجاد الروائيون توظيف المكان في رواياتهم، توظيفا يشي بقيمة المكان وعظمته، وأحيانا لعب المكان دور البطولة الحقيقية في الأعمال الروائية، فليست قصر الشوق والسكرية وبين القصرين وخان الخليلي إلا أبطالا حقيقين، دارت الشخصية في فلك المكان ومداره وارتسمت ملامحها بفضل هذه الأماكن ذات النزعة الشعبية في القاهرة. كما أجاد محمد عبد الحليم عبد الله وصف الريف المصري، وعالج قضاياه ومشكلاته الضرورية، كما في (بعد الغروب)، و(شجرة اللبلاب) حيث صور الحب في قرى مصر.

 

بعض الأماكن يضفي حيوية على أهله وبعضها يميت الحياة ..

يكتسب المكان في الرواية قيمته الفنية والموضوعية باعتباره وعاء للزمان، حيث يسعى الإنسان من خلالهما ووفق مجموعة من العوامل التي تشكل محيطه النفسي تحقيق شعوره بالتواجد والكيان الفردي الاجتماعي، ويكون المكان نفسه سببلا لنفور الإنسان إذا ما وجد ضيقا في نفسه، وأحس بالرعب فيه، فيبدأ في استشكاف النفس قبل الجسد، وتكمن أهمية المكان وجمالياته في رواية”موت صغير” لمحمد حسن علوان بذكر التفاصيل الدقيقة للمكان ولأهله معا، فذكر التفاصيل الصغيرة يزيد الارتباط بالمكان، وييبقى في ذهنه ووجدانه أطول مدة ممكنة، وإنما تتفاضل الأماكن بذكر التفاصيل. فيقول عن ذلك: “قليلة هي المدن التي تجوز أسوارها أول مرة فتشعر أنها كانت تنتظر وصولك،  تلقي على خطواتك الأولى عتابا مشوبا بالحنين وشوقا محفوفا بالرضا. هكذا استقبلتني بغداد وأنا واحد من مئات حملتهم القافلة إلى هنا غير أني شعرت أنها حيتني وحدي تحية المدن السخية للغرباء المتعبين. على ملامحي مذ دخلتها علامات اندهاش تشبه تلك التي ترتسم على الأوجه عندما يعانقك من لا يعرفك. ويحبك من لم يلتقك، ويصفك من لم يرك، تظل الدهشة حاضرة زمنا طويلا حتى تنتهي المدينة من تلقينك دروسها الأولى، كيف تمشي على ضفة دجلة ويبقى قلبك خلف أضلعك لا يجري به النهر؟

 

كيف تمر بالرصافة دون أن تستوقفك كل نحلة بحكاية جديدة لا تعيدها في اليوم التالي؟  كيف تتجول في أسواق الكرخ دون أن يترك كل عطار وبزاز وصائغ في سمعك قولا لا يفارق ذهنك طيلة النهار لفرط فصاحته وبلاغته وحلاوته؟ أين تجد زهدا كافيا لتوصد باب بيتك كل ليلة في وجه بغداد وتنام؟

 

وليست التفاصيل فحسب هي إحدى جماليات المكان عند محمد حسن علوان بل تكمن أيضا في درجة الوعي الذي أحسه (ابن عربي) في التمييز بين الأماكن؛ فالأماكن كالنساء بعضها يثبت عتبته، وبعضها ينفر منها الإنسان، وبعضها حافز للحب، وبعضها قاتل له، دون سبب واضح اللهم إلا درجة الوعي الذي يصل إليه ابن عربي نتيجة خبرته وتنقلاته وكثرة رحلاته هنا وهناك، “وهكذا أرادت لنا مكة، بعض الحب لا ينمو في بلاد بعينها، ولا يعيش في بلاد أخرى، وحبنا كان نافورة لا يجري ماؤها إلا في الأندلس، حتى إذا فارقناها انحسر ماؤها حتى يجف تماما في قيظ مكة”

 

 

 

طالع أيضاً المزيد

“متوفر لدينا”.. مذكرة بوكليت لغة عربية للصف السادس الابتدائي الترم الثاني 2024 pdf