أحمد فرحات يكتب : خصومة شريفة

 

 

علمتنا الحياة أن عدوا صريحا واضحا أفضل ألف مرة من صديق مخادع متلون، فهناك أصدقاء حسب الظروف، وأصدقاء في كل الظروف!

فالحياة ليست كلها حربا أو سلما فقط، بل في الحياة منطقة لا سلم فيها، ولا حرب، وإنما هي منطقة حذرة في العلاقة بين الأشخاص، فيها حب مشوب بالكره، أو كره مشوب بالحب، وتكون هذه المنطقة بين أصدق الأصدقاء وأقرب المقربين، خاصة عندما تنشأ بينهما خصومة، والخصومة عندئذ تكون نوعين: خصومة رأي، وخصومة موقف. فأما خصومة الرأي ” فلا تتعدى الاختلاف في الرأي،… فلا تفسد ما بينهما من صداقة أو مودة. وأما خصومة الموقف فهي التي تتعدى اختلاف الرأي إلى العلاقة بين الطرفين، ويمكن أن توصف حينئذ بالعداوة حيث إن جوهر الخلاف فيها منصب على سوء العلاقة بين الطرفين أو هو نابع منه.” ؛ ففي مجال الحب الخالص قصيدة أبي عُرُوبة المدنيّ:

 

إِنِّي وَإنْ كَانَ ابنُ عَمِّي كاشِحًا

لَمُزَاحِمٌ مِنْ دونه وَوَرَائِهِ

وَمُعِيرُهُ نَصْرِي وَإنْ كَاْنَ امْرَءاً

مُتَزَحْزِحاً في أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ

وإنِ اكْتَسَى ثَوباً نَفِيسًا لَمْ أَقُلْ

يا لَيتَ أنَّ عليَّ حُسْنَ رِدَائهِ

 

هذا حب خالص! يرى الشاعر أنه يجب أن يكون مع ابن عمه في السراء والضراء، أن يكون في صفه وبجانبه وإن أضمر ابن عمه العداوة والبغضاء في صدره.. فيكون معه وناصره مهما بلغ الأمر من مشقة، لا يحسده ولا يظلمه، إن ضاق الزمان به ووسع في رزق ابن عمه، يحبه ولا يبغضه مهما كلفه الأمر، ومهما كانت الظروف، فالإنصاف هنا يؤكد صلة الصداقة ويقويها، وعلى العكس تماما، فقلة الإنصاف داعية إلى التقاطع والهجر وأحيانا العداوة، فهذا الإنصاف يكون خالصا في المحبة، وإظهار هذه المحبة للطرف الآخر دليل على نقاء سريرته. وقد علق عبد الملك بن مروان على هذه الأبيات قائلا: هذا والله من شعر الأشراف.

 

نفى عن نفسه الحسد واللؤم والانتقام عند الإمكان، والمسألة عند الحاجة. وسبب إعجاب عبد الملك بن مروان بهذه الأبيات أيضا أنه رأى أن الشاعر رأى الإفضال على عدوه وترك مجازاته. كما يقول الجاحظ.

وعلى العكس من ذلك، يكون الإنصاف في حالة البغض الصريح؛ فالشاعر يكون منصفا إذا صرح ببغضه وكراهيته بناء على بغض وكراهية الطرف الآخر؛ فالشاعر يقسم أنه على خلاف دائم مع الطرف الآخر؛ فالآخر يبغضه، ويصر على كراهيته، ويرى نفسه أعلى شأنا من الشاعر، وعلى ذلك فالشاعر يبادله بغضا ببغض، وكراهية بكراهية، فيقول المُثَقّبُ العَبْدِيّ الوافر:

 

لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وأَبا رياحٍ

على طُولِ التَّهاجُر مُنْذُ حِينِ

لأُبْغِضُهُ ويُبْغضُنِي وأَيضاً

يَرانِي دُونَهُ وأَراهُ دُونِي

فَلَو أَنَّا على حَجَرٍ ذُبحْنا

جَرَى الدَّميَان بالخَبَر اليَقين

 

والفَضْلِ بنِ العَبَّاس يقول:

 

مَهْلاً بَني عَمِّنَا مَهلا مَوالينا

لا تَنبِشُوا بَينَنا ما كَانَ مَدفونا

مَهلاً بَني عَمِّنا عَن نَحْتِ أَثلَتِنا

سِيروا رُوَيداً كَمَا كُنتُم تَسيرونا

لا تَطمَعوا أَن تُهينونا وَنُكرِمَكُم

وَأَن نَكُفَّ الأَذى عَنكُم وَتُؤذُونَا

اللَهُ يَعلَمُ أَنّا لا نُحِبُّكُمُ

وَلا نَلومُكُمُ أَلّا تُحِبّونا

كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ في بُغضِ صاحِبِهِ

بِنِعمَةِ اللَهِ نَقليكُم وَتَقلونا

 

فإننا لا نرى عيبا في جهارة الشاعر بعداوة خصمه كما يجاهر الخصم، ويعلن عن عدم حبه له كما أعلن خصمه تماما، وعندئذ أنصفه بشجاعة.

 

 

اقرأ أيضاً..بعائد 27%.. طرق شراء شهادات الادخار الجديد من بنكي الأهلي ومصر 2024

اعرف مواعيد انقطاع الكهرباء في الإسكندرية