أحمد فرحات يكتب :النص المربك

 

النص الجيد هو الذي يصيبك بالإرباك والدهشة، يخطفك، لا تقوى أمامه إلا الاستمرار في حدة وتوتر وانفعال،يستوي ذلك النص أن يكون شعرا أو نثرا.

آية نجاح المبدع أن يربك قارئه ويفاجئه بما لا يتوقع.

فإذا وقفت أمامه انبطحت على بطنك متأملا فيه يمنة ويسرة، صعودا وهبوطا، فخطفك من عالمك ليضعك  في عالمه هو، تتأمل صوره وموسيقاه وإيقاعاته ولغته.

ولست أدري، أأقف بك على عالم الشعراء أم الناثرين؟ أفي القديم الجاهلي والإسلامي والأموي أم الحديث المعاصر؟

دعني أخذك إلى عالم القدماء، الذين خلدوا أشعارهم ومآثرهم بسبب هذه الدهشة وهذا الإرباك المتعمد.

لعلي أعود بك إلى الأجداد في بساطة تعبيراتهم، وطازجة موسيقاهم، وعمق أفكارهم.

تأمل سيدي هذا الرجل البدوي يراوغ متلقيه ويخالتهم، فيقول:

أبكي إلى الشرقِ إن كانت منازلهم

مما يلي الغربَ ، خوفَ القيلِ والقالِ

أقُولُ: بالخدِّ خالٌ حِينَ أنعتُها

خَوفَ الوشاة ، وما بالخدِّ من خالِ

يا أغْفَلَ النَّاسِ عمّا بي وأعلمَهُمّ

بما يُداوَى به حُزني وبلبالي

لَسْنا وإن كنتَ تجفونا وتقطعُنا

بتاركيكَ على حالٍ من الحالِ

لا أظن نك واجد معنى صعبا عويصا تحتاج معه الرجوع إلى القواميس، فبأقل تأمل ستصل أفكاره إليك وستدهشك، وربما حفظتها عن ظهر قلب!

وهذه السيكة أم السليك تنعي ابنها:

طافَ يبغي نَجوَةً

مِـــــــــــــنْ هَلاكٍ فهَلَكْ

ليتَ شِعري ضَلَّةً !

أيُّ شيءٍ قتلَكْ؟

أمريضٌ لم تُعَدْ

أم عدوٌّ ختلكْ؟

أم توَلَّى بكَ ما

غَالَ في الدَّهْر السُّلَك؟

أمْ نِزالٌ من فتى

جَدَّ حتَّى جدَّلك؟

أم جُحَافٌ سائلٌ

من جبالٍ حمَلَك؟

كلُّ شيءٍ قاتلٌ

حينَ تلْقى أجلَكْ

إنها نفثة قلب موجوع، وصرخة فؤاد محزون؛ فالكلمات معبرة عن لوعة الأم الثكلى، حيث جاءت الأبيات كلها تحمل استفهاما طويلا، استغرق مساحة القصيدة كلها تقريبا، والاستفهام هنا يحمل مضمون التجربة بأكملها، وهو منصب على الحالة التي كان عليها الابن عند موته، فهي لم تسأل عن القتل؛فهذا مصير محتوم لأي صعلوك ابن صعلوك؛ بل تتساءل عن سبب قتله، وهو الفتى الطيب الذي جمع مع الحسن دماثة الخلق.

 

أما عن الوزن الشعري في الأبيات ففيه خلاف بين أهل العلم؛ فالأبيات” إما أن تكون من الوزن المديد، وهو من أهل بيت المملكة في الشعر؛ لأنه أخو الطويل والبسيط، وإن كان مقصِّرا عنهما، وهو معهما في دار المُلْكِ، وعنيتُ بدار الملك: الدائرة التي تجمعه وأخويه.. وإما أن تكون من الرمل، وهو من عامة الشعر، وبذلك حكم أهل العلم” ،وقيل عن وزن الأبيات أيضا: “وهذا وزن نادر من أوزان الشعر، قال التبريزي: من مشطور المديد، والقافية متراكب. قال أبو العلاء: هذا الوزن لم يذكره الخليل ولا سعيد بن مسعدة، وذكره الزجاج، وجعله سابعا للرمل، وقد يحتمل أن يكون مشطورا للمديد”.